هناك حكاية صغيرة تلخص الحجم الخرافي الذي أصبح يحتله حزب الأصالة والمعاصرة في المشهد السياسي المغربي. تقول الحكاية إن رجلا كان يشتغل في محل للتبريد، وعندما أنهى إدخال اللحوم إلى الثلاجة الكبيرة اكتشف أنه أغلق على نفسه الباب من الخارج، وبما أنه كان وحيدا في المحل تلك الليلة فقد فطن إلى أنه سيموت لا محالة بسبب البرد. فجلس وأخرج ورقة وقلما وبدأ يكتب وصيته الأخيرة. وفي الغد عندما فتح المستخدمون الثلاجة عثروا على الرجل ميتا وهو ممسك بالورقة التي كتب عليها التالي: «إنني أشعر بالقشعريرة تجتاح جسدي، لقد بدأت أفقد الإحساس بقدمي، إن يدي أصبحت عاجزة عن الحركة، إنني أتجمد...».
مفاجأة عمال شركة التبريد لم تكن العثور على تلك الوصية في يد زميلهم الميت، وإنما مفاجأتهم كانت هي اكتشافهم أن الثلاجة التي مات بداخلها زميلهم لم تكن مشغلة ذلك اليوم. وهكذا فهموا أن زميلهم مات بسبب الوهم وليس بسبب البرد.
وما يقوم به مؤسس الأصالة والمعاصرة عندما يوهم الجميع، سياسيين ومثقفين وصحافيين، بأنه حزب الفرقة الناجية والحزب الذي يحتكر الحديث باسم الإرادة الملكية، جعل الأحزاب السياسية الأخرى تعتقد نفسها داخل ثلاجة كبيرة تتجمد فيها أطرافها ببطء، قبل أن نكتشف أن الثلاجة غير مشغلة وأن الأحزاب التي تحتضر أمامنا اليوم إنما تحتضر بسبب الوهم الذي أطلقه فؤاد وصدقه الجميع.
أكبر دليل على عطب التبريد في ثلاجة الهمة هو أن فزاعة «الإرادة الملكية» التي أراد أن يخيف بها خاله الجميع في بلاد «العلوة» الأسبوع الماضي، عندما قال أمام الفلاحين إن المخطط الأخضر يتناقض مع الإرادة الملكية، هو أن الملك وقع في فاس يومين فقط بعد تصريحات الهمة وخاله في «العلوة» على تعيينات المديرين الجدد الذين سيلتحقون بمديرياتهم الفلاحية الثماني. وليس خافيا على خال الهمة الذي أعطى نفسه الحق في القول باسم الإرادة الملكية إن هذا التقسيم الجديد للمديريات الفلاحية يدخل ضمن إعداد الأرضية التقنية لتطبيق المخطط الأخضر. ولو كان الملك فعلا غير راض على المخطط الأخضر لاعترض على توقيع التعيينات.
لذلك فكل التفاصيل التي ترافق زيارات الهمة للأقاليم والتي تتشبه بالزيارات الملكية، كصبغ «الطريطوارات» وإحضار حشود المستقبلين وطقوس الحليب والتمر، وكل إحالات حزب الأصالة والمعاصرة على الإرادة الملكية والتوجهات الملكية كما صنع مع المخطط الأخضر، ليست سوى «تشاش» يريد الهمة من خلاله ضرب منافسيه على «الشعا» حتى يضمن لنفسه إشاعة الوهم الذي يخدر الأحزاب في ثلاجته الكبيرة.
مشكلة الأحزاب أن أمناءها العامين لم يقرؤوا رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني. وأشك في أن بينهم من يقرأ أصلا. فلم يحدث إلى حد الآن أن رأينا أحدهم في التلفزيون أو قرأنا له في جريدة استشهادا واحدا بفقرة في كتاب أو بيت في قصيدة أو حكمة لمفكر أو فيلسوف.
تحكي رواية «رجال في الشمس» قصة ثلاثة فلسطينيين من أجيال مختلفة، كل منهم يعاني مشكلة معيشية تواجه كل الفلسطينيين الذين شردوا ونزعوا من أرضهم بالقوة بعد 1948، يحاولون حل مشاكلهم عبر الهروب إلى الكويت، بلد النفط والثروة. فيقررون الهرب في خزان شاحنة يقودها أبو الخيزران. وهو رجل كان مقاوماَ، لكنه فقد رجولته في حرب 1948، وأصبح بعدها سائقاَ يعمل على طريق الكويت، ويهرب الممنوعات أحيانا والناس أحيانا أخرى.
وفي الطريق يموت الفلسطينيون الثلاثة بسبب شدة الحر داخل الخزان، لان السائق تأخر في نقطة التفتيش.. يموتون دون أن يقرعوا جدار الخزان أو يرفعوا أصواتهم بالصراخ والاحتجاج، فكانت نهاية مأساوية، وانتهت الرواية بطرح سؤال بديهي «لماذا لم يدقوا جدران الخزان، لماذا».
وهذا بالتحديد هو السؤال الذي نطرحه اليوم جميعا ونحن نرى كيف يهرب رجل واحد الأحزاب جميعها في خزان نحو أرض الديمقراطية الموعودة. وعندما يكون هناك من يوقفونه في نقطة التفتيش ويعثروا معه على برلمانيين مهربين يهدد بالنزول من الشاحنة وتوقيف حركة السير بإسقاط الحكومة.
لماذا لا يدقون جدران الخزان، إذن ؟
الجواب بسيط جدا، فهذه الأحزاب صدقت الوهم وتجمدت أطرافها في الثلاجة المعطلة. ولذلك فهي غير قادرة على جمع قبضتها وقرع جدران الثلاجة. قرع الجدران ليس هو الصراخ في وجه الحزب الوحيد وكيل الشتائم له واتهامه بأحط النعوت والصفات، بل هو مواجهته بمشاريع سياسية حقيقية تتجاوز اليومي والعابر إلى ما ينفع الناس.
ولعل المتأمل للنقاش السياسي الدائر في وسائل الإعلام، سواء منها العمومية أو الحزبية أو المستقلة، بين مختلف الأطياف والأشباح السياسية والحزبية سيلاحظ أن البرنامج السياسي الوحيد لجميع هذه الأحزاب هو «الضرب والجرح». فبرنامج الاتحاد الاشتراكي هو مهاجمة الهمة، وبرنامج الاستقلال هو نبش قبور أموات الاتحاد الاشتراكي، وبرنامج العدالة والتنمية هو مهاجمتهما معا، أما برنامج الهمة فهو مهاجمة الجميع بدون استثناء. ووسط كل هذه «القيامة» الحزبية ليس هناك حزب واحد لديه موقف سياسي واضح من قضية شديدة الخطورة وقعت قبل يومين عندما صرح عبد القادر طالب عمر، رئيس ما يسمى بحكومة البوليساريو، لوكالة الأنباء الإسبانية قائلا إن جبهة البوليساريو مستاءة من الوضع الجامد الذي تعرفه المفاوضات بينهما وبين الرباط. وإذا فشلت الجولة الخامسة من المفاوضات فليس أمام البوليساريو من حل آخر سوى العودة إلى حمل السلاح في وجه المغرب لخوض الحرب التي هم مستعدون لها.
وما يثير الاستغراب حقا هو أنه لا الأحزاب السياسية ولا وزارة الخارجية ولا الداخلية ولا الجيش ولا أي مسؤول مغربي خرج لكي يشرح للشعب كيف سيكون رد المغرب على هذا التهديد الذي يمس الأمن القومي للمغاربة.
وأمام هذا التهديد المباشر والصريح بإعلان الحرب على المغرب، اختارت الأحزاب جميعها، وعلى رأسها حزب الهمة الذي يرأس أمانته العامة صحراوي من مؤسسي البوليساريو ولازال أخوه يشغل منصب وزير الدفاع في الجبهة الانفصالية، الصمت المطبق ولم تتجرأ على إصدار ولو بيان بسيط يوضح موقفها من التطورات السلبية المحتملة للوضع في الصحراء.
لقد نسيت الأحزاب جميعها، في غمرة سباقها المحموم نحو مقاعد البلديات والجماعات، أن المغرب لديه أعداء يتربصون بوحدته الترابية ويبحثون عن كل الثغرات الممكنة لكي ينفذوا منها إلى قلبه النابض.
وأخشى ما نخشاه هو أن تكون هذه الأحزاب قد ماتت في الثلاجة من فرط الوهم ولم يعد يرجى خير من انتظار دق زعمائها لجدران الخزان.