لا أحد يفهم لماذا يتم إطلاق مشاريع ضخمة إماراتية في المغرب، وبعد مدة قصيرة يجمع الأشقاء العرب حقائبهم بعد أن يقطعوا الشريط ويعطوا انطلاقة مشاريع بملايير الدولارات، ويعودوا إلى جزرهم البعيدة في الخليج.
الجميع تابع كيف غادرت «سماء دبي» و«إعمار» السباق نحو الظفر بمشروع «أبو رقراق» بالرباط و«سندباد» بالدار البيضاء، ولا أحد فهم السبب الحقيقي لهذه المغادرة التي ردها الجميع إلى الأزمة الاقتصادية العالمية التي جعلت أغلب الشركات العقارية الكبرى تقلص من استثماراتها عبر العالم.
ومكان هذه الشركات الإماراتية التي تخلت وسط السباق، دخلت على الخط شركة عقارية أخرى، إماراتية أيضا، وأخذت مكان الشركات المنسحبة.
في هذا السياق، يمكن فهم زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان مؤخرا للمغرب. فالمكان الذي يغادره آل مكتوم، المساهمون الرئيسيون في شركات «إعمار» و«سماء دبي»، يملؤه بسرعة آل نهيان.
ومن أجل فهم سر هذه المنافسة الاقتصادية الشرسة بين الإمارتين يجب البحث عن المرأة في كل ما يقع. وليس أي امرأة، المرأة المغربية تحديدا. فالمرأة ليست وراء كل عظيم فقط، بل وراء كل مستثمر.
إذا كانت شركات إمارة «آل نهيان» قد حلت بالمغرب لكي تكمل العمل الذي بدأته شركات إمارة «آل مكتوم»، فلأن هناك وراء هذا كله امرأة مغربية ليست شخصا آخر غير زوجة الراحل الشيح زايد بن سلطان آل نهيان، وأم وزير الخارجية الإماراتي الحالي الشيخ عبد الله بن زايد بن سلطان آل نهيان.
وعندما تدافع زوجة الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان عن وجود شركات إمارة آل نهيان في المغرب، فإنها من جهة تدافع عن حق أبنائها في الاستثمار في بلد والدتهم، ومن جهة أخرى تسجل هدفا في مرمى إمارة آل مكتوم التي «غامرت» بالاستثمار في بلاد تعتبر نفسها الأحق باستثمارات أبنائها.
إذا كان خندق آل نهيان لديه شيخة مغربية قوية تدافع عن استثماراته في المغرب، فإن خندق آل مكتوم أيضا كانت لديه امرأة مغربية قوية وذات تأثير ونفوذ قويين. إنها الشيخة بشرى، زوجة نائب رئيس الإمارات العربية المتحدة، وأمير دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. لكن نفوذ الشيخة بشرى لم يعد قويا كما كان في السابق، خصوصا بعد زواج الأمير بالأميرة الأردنية «هيا»، أخت الملك الأردني عبد الله الثاني.
وما نراه من صراع بين القبيلتين الإماراتيتين على ضفاف نهر أبي رقراق ليس وليد اليوم، فالأمر لا يتعلق بشركة إماراتية غادرت المغرب وأخرى دخلت إلى المغرب، بل إن الصراع بين الإمارتين قديم، ويعود إلى 1971، تاريخ تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة. فبينما ظلت إمارة أبو ظبي، معقل آل نهيان، تعتبر العاصمة السياسة حيث الهدوء والمحافظة، اختارت شقيقتها إمارة دبي، معقل آل مكتوم، الصخب والتطاول في البنيان والركض خلف الأضواء العالمية.
ومن ذلك التاريخ والصراع على أشده بين العائلتين، ومن يتابع برامج قناتي «أبو ظبي» و«دبي تي. في» سيفهم جيدا تفاصيل هذه المنافسة الشرسة التي تحركها نساء قويات ومؤثرات من وراء الخمار.
ووسط غبار هذه المعارك الاقتصادية والمالية، هناك مع ذلك إجماع وطني ضمني بين الخندقين على احترام كل طرف لمياهه الإقليمية حفاظا على الاستقرار الاقتصادي في دولة بدأت تظهر عليها أعراض الاختلال على مستوى الهرم السكاني.
الغريب في ما يحدث بالمغرب في عالم المال والأعمال أن وزير المالية اعترف أخيرا بأن المغرب يعاني، مثل غيره من الدول، من تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية. وهو الاعتراف الذي خرج أخيرا من فم الوزير بعد أن رأى بعينيه كيف تراجعت عائدات السياحة بخمسة عشر بالمائة، وكيف تقلصت تحويلات المهاجرين المغاربة بنسبة مقلقة، وكيف تدهورت الصادرات المغربية إلى مستويات غير متوقعة. يعني أن الوضع الاقتصادي والمالي للمغرب يوجد في وضعية لا يحسد عليها، رغم كل «العكر الفاسي» الذي يطليه عباس وصهره نزار بركة على شفتي المغرب.
المفارقة الغريبة هي أنه في الوقت الذي يقوم فيه البعض بمجهود جبار لجلب الاستثمارات إلى المغرب لإنقاذ مشاريعه الكبرى المتعثرة، نفاجأ عندما نرى كيف تساهم بعض مؤسسات الدولة التي تسهر على ودائع اليتامى والأرامل، كصندوق الإيداع والتدبير، في حل أزمات شركات فرنسية تغرق ماليا بسبب الأزمة العالمية.
ولهذا ربما نفهم عقد الباكوري، المدير العام لصندوق الإيداع والتدبير، اجتماعا للمجلس الإداري على «النبوري»، أي على الساعة السادسة صباحا، فقط من أجل الموافقة على بقاء شركة «فيبار هولدينغ» المملوكة لصندوق الإيداع والتدبير، في رأسمال شركة «كلوب ميديتيراني» الفرنسية. وليس البقاء ضمن طاولة المساهمين فحسب، وإنما المشاركة في رفع رأسمالها بعشرة مليون أورو. كل هذا السخاء المالي الذي عبر عنه الباكوري جاء بعد يومين من إعلانه عن تراجع أرباح صندوق الإيداع والتدبير لسنة 2008 بحوالي 62.4 في المائة.
ما الذي يدفع إذن شركة مغربية، تتصرف في أموال الأرامل واليتامى، إلى المساهمة في إنقاذ شركة فرنسية رغم أنها أيضا بحاجة إلى من ينقذها بسبب كل الخسارة المالية التي تكبدتها سنة 2008.
الجواب لا يوجد في مكتب مدير صندوق الإيداع والتدبير المقابل لساحة مولاي الحسن بـ«بلاص بيتري»، وإنما يوجد في دهاليز قصر الإليزيه بباريس. تماما مثلما لا يوجد الجواب عن سر انسحاب شركات إمارة «آل مكتوم» من المغرب في الرباط، بقدر ما يوجد في دهاليز قصور أمراء «آل نهيان».
والواقع أنه منذ إعلان الملياردير والسياسي الفرنسي المشاغب «بيرنار تابي» رغبته في الاستحواذ على شركة «كلوب ميديتيراني»، أطلقت مراكز نفوذ مغربية صفارة الإنذار في قصر «الإليزيه» لمنع هذه الصفقة. فالرجل لديه علاقة متوترة مع مراكز النفوذ المغربية هذه منذ فترة حكم جاك شيراك.
ولعل متتبعي أسهم البورصة الفرنسية يتذكرون 27 أبريل الماضي، عندما ارتفعت أسهم شركة «كلوب ميديتيراني» بـ6.81 في المائة وأصبح السهم يساوي 12.55 أورو. عندها اعتقد الباكوري أن الفرصة أصبحت مواتية لكي تبيع «فيبار أنترناسيونال أوفشور»، فرع صندوق الإيداع والتدبير الذي يستوطن المنطقة الجرة بطنجة، أسهمه في رأسمال الشركة الفرنسية في البورصة.
رد فعل «الإليزيه» كان سريعا، وخوفا من انسحاب الرأسمال المغربي من الشركة الفرنسية أصدر ساركوزي أمرا إلى وزيرته في الاقتصاد من أجل فتح تحقيقين، الأول سري والثاني من أجل ضبط ارتفاع الأسهم وإرغام المغاربة على البقاء في رأسمال الشركة الفرنسية.
وبالإضافة إلى حرمان «بيرنار تابي» من الانقضاض على الفرصة والعودة إلى الساحة المالية والسياسية وتهديد مستقبل ساركوزي، فقد تمكن هذا الأخير من الإبقاء على صندوق الإيداع والتدبير ضمن لائحة منقذي الشركة الفرنسية من الإفلاس، تفاديا لرؤية المزيد من طوابير العاطلين الذين فقدوا وظائفهم بسبب الأزمة في الشوارع الفرنسية.
طبعا، لن نتحدث عن «اللوبي» الفرنسي الذي يريد تأزيم العلاقات بين المغرب والسنغال لكي تأخذ الشركات الفرنسية مكان الشركات المغربية التي استطاعت اختراق الحظر الفرنسي على إفريقيا ووضعت أقدامها في دكار. وفي هذا الإطار، يمكن أن نتساءل عن الجهة التي لها مصلحة في خروج شركة «لارام» من السنغال لكي تحل محلها الخطوط الجوية الفرنسية.
كما من حقنا أن نتساءل عن الجهة المستفيدة من صفقات «الترامواي» و«التي جي في» التي أبرمها المغرب مع شركات فرنسية، خصوصا عندما ينصح الفرنسيون الذين سيبيعوننا قطارات «التي جي في» بالاقتصار في الوقت الحالي -بالنظر إلى إمكانياتنا التقنية- على قطارات تسير بسرعة 200 كلم في الساعة، بينما يصر وزير النقل والتجهيز كريم غلاب على اقتناء القطارات التي تتجاوز سرعتها 300 كلم في الساعة. «ما عرفناه مالو على هاد الزربة كاملة».
وهكذا ترون كيف يعمل البعض على جلب الاستثمار إلى المغرب، في الوقت الذي يبذل البعض الآخر كل جهده لكي يستثمر أموال المغاربة لإنقاذ مشاريع الآخرين المهددة بالإفلاس.
وقديما قال المغاربة «الطلاب يطلب ومرتو تصدق»,