نص القرآن الكريم، في سورة يوسف، على دخول يعقوب، عليه السلام، وجميع أبنائه مصر، والآيات الكريمة توحي بأنهم قد سكنوها واستقرّوا فيها. وليس هناك ما يشير إلى أنهم لم يخرجوا منها حتى أخرجهم موسى، عليه السّلام. ومعلوم في التاريخ أنّ المدّة بين يوسف وموسى، عليهما السلام، لا تقل عن أربعمائة وخمسين سنة. ومعلوم أيضاً أنّ مُلك الهِكسوس، وكذلك الفراعنة من بعدهم، قد شمل بلاد الشام.
على ضوء ذلك من المتوقّع أن ينتشر أبناء يعقوب، أي أبناء إسرائيل، وأحفاده خارج القطر المصري، ولا مسوّغ للجزم ببقائهم جميعاً في مصر. هذا يفسر ما ورد في لوح مرنبتاح ابن رمسيس، والمعروف عند المؤرخين بلوح إسرائيل، حيث ينص الفرعون مرنبتاح على إبادته لإسرائيل التي كانت تسكن بلاد الشام. والعبارة الواردة في اللوح هي: " وإسرائيل أُبيدت ولن يكون لها بذرة ". ويبدو أنّ قطاعاً من المستضعفين من بني إسرائيل قد تسرّبوا، فارّين من الاضطهاد الفرعوني، وانضموا إلى أقاربهم الذين سبقوهم إلى بلاد الشام، خلال السنين المتطاولة التي سبقت عصر الاضطهاد، مما جعل مرنبتاح يعمل على اجتثاث هؤلاء، حتى لا يكونوا بؤرة جذب لكل من يصبو إلى التحرر من عبودية الفراعنة. ومما يؤكّد ذلك ما ورد في بند من بنود معاهدة عُقدت بين أحد ملوك الفراعنة وملك الحيثيين، حيث ينص هذا البند على تسليم الهاربين والمجرمين والمهاجرين من إحدى الدولتين إلى الأخرى.
جاء في الآية 83 من سورة يونس:" فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم... " وهذا يعني أنّ قلّة من الشباب هم الذين آمنوا لموسى، عليه السلام، أمّا بقيّة الشعب من بني إسرائيل فاختلفت مواقفهم؛ فمنهم من استمرأ الذل وركن إلى الواقع، ومنهم من هو على استعداد أن يلحق بالمؤمنين في حال هجرتهم. ولا يُتصوّر أن يخرج الشعب الإسرائيلي بالكامل، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين ارتبطت مصالحهم بمصالح الفراعنة، ممن هم مثل قارون: " إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم..." القصص:76. بل إنّ هناك ملأ من بني إسرائيل كانوا يعملون لصالح نظام الفراعنة، بدليل قوله تعالى في آية سورة يونس:" على خوف من فرعون وملئهم ... " وكيف يمكن لشعب يعد بمئات الألوف، بل هو أكثر من ذلك، أن يخرج خلسة، وأنّى لغير المؤمن منهم أن يثق بموسى، عليه السلام، فيخرج إلى عالم المجهول ؟! بهذا نكون قد خلصنا إلى نتيجة تقول: هناك ما يدل على خروج بعض أبناء إسرائيل قبل مجيء موسى، عليه السلام، إلى مصر. ولا يوجد ما يُثبت خروج كل بني إسرائيل مع موسى، عليه السلام، بل إنّ الأقرب إلى العقل ومنطق الأمور أن تبقى الأكثرية في مصر وتخرج فقط الأقلية المؤمنة ومن يواليها ويتبعها لسبب أو آخر.
هناك أدلة كثيرة تُثبت أنّ فرعون الخروج هو مرنبتاح بن رمسيس الثاني. ولا مجال هنا لتقديم هذه الأدلة، ولكن من اللافت أنّ الوثائق الفرعونية تنص على حصول فوضى واضطرابات بعد موت مرنبتاح، بل نجد أنّ السلطة الفرعونية تتهاوى ويسيطر على العرش شخص يوصف بأنّه آسيوي سمّته بعض المصادر (أرسو). ومن يتدبّر الآيات القرآنية يدرك أنّه بعد غرق فرعون وجنده ورموز سلطته سيطر الشعب الذي ينتمي إلى طوائف شتى، ومنهم شعب بني إسرائيل، على كل ما تركه الفرعون وأركان سلطته. انظر قوله تعالى: " فأخرجناهم من جنّات وعيون، وكنوز ومقام كريم، كذلك وأورثناها بني إسرائيل، فأتبعوهم مشرقين " الشعراء:(57-60). فبمجرد خروج الفرعون تمّ الإرث، بدليل استخدام الفاء في قوله تعالى: " فأتبعوهم مشرقين ". ولم يكن شعب إسرائيل هو الوارث الوحيد، بل إنّ هناك شعوباً أخرى كانت في الطبقات الأدنى. انظر قوله تعالى: " كم تركوا من جنّات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونَعمة كانوا فيها فاكهين، كذلك وأورثناها قوماً آخرين " الدّخان:(25-28). ويبدو أنّ بني إسرائيل كانوا في الدائرة الأقرب إلى القصور الفرعونية، بدلالة قوله تعالى في آيات سورة الشعراء:" وكنوز ومقام كريم " أمّا الدائرة الأبعد، وهي الأراضي والسهول، فقد وقعت تحت سلطة آخرين، بدليل قوله تعالى:" وزروع ومقام كريم... وأورثناها قوماً آخرين" .
أمّا الذين خرجوا مع موسى، عليه السلام، وحكم الله تعالى فيهم أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة، فربما أصبحوا في هذه المدة بؤرة جذب لبعض من بقي في مصر، ثم أورثهم الله تعالى الأرض المباركة، بدلالة قوله تعالى:" وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها.." (الأعراف: 137). فالميراث الفوري كان لمن بقي في مصر، أمّا ميراث الأرض المباركة فكان بعد زمن التيه. وعلى هؤلاء من بني إسرائيل نزلت التوراة، أمّا البقيّة، قلّت أم كثرت، فقد اختلطت بالشعوب الأخرى وبالتالي لم تتميّز، لأنها لم تتهوّد .
جاء في الآية 32 من سورة الدخان:"ولقد اخترناهم على علم على العالمين". فخروج موسى، عليه السلام، بمن آمن له من بني إسرائيل، وتلقيهم التوراة، كل ذلك كان باختيار ربّاني. وعلى الرغم من مفاسدهم وضلالاتهم وانحرافهم، فقد خرج منهم بعد حين دعاة هداة؛ جاء في الآية 159 من سورة الأعراف:"ومن قوم موسى أمّةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون". وجاء في الآية 168:"وقطّعناهم في الأرض أمماً منهم الصالحون ومنهم دون ذلك...". فاختيارهم، إذن، واختيار الأرض المقدّسة لتكون المحضن والمنطلق، كل ذلك كان على علم وعن حكمة ربّانية؛ انظر ما ورد عن عهد طالوت، ثم انظر ما ورد عن عهد داود وسليمان، عليهما السلام، ثم انظر إلى اختيار الله تعالى لآل عمران، وانظر الأجواء التي عاشتها مريم، عليها السّلام.
صحّ في الحديث الشريف أنّ الله تعالى كان يبعث الرسل إلى أقوامهم خاصّة، حتى جاء زمن الرسالة العامّة المتمثلة في الإسلام. وخصوصيّة الرسالات السابقة تعني أنها مرحليّة، وهذا ينطبق على التوراة التي كانت خاصّة ببني إسرائيل. من هنا كانت اليهوديّة قاصرة على بني إسرائيل. وقد كان خروج اليهود ( بني إسرائيل) عن تعاليم التوراة على صورتين؛ الأولى بالتحريف، والثانية بمقاومة الإصلاح والتصويب الذي كانت تأتي به الرسل والأنبياء. جاء في الآية 78 من سورة المائدة:" لُعِن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون". فاللعن إذن كان للذين كفروا منهم، وهذا يعني أنّ هناك فئة آمنت وصحّحت مسيرتها، وهذا ما كان يحصل في كل مرحلة. وعندما جاء الإسلام وجدنا منهم من يسلم لله تعالى، واستمر ذلك إلى يومنا هذا.
بمرور الزمن، ونتيجة لاستمرار الفرز عبر المراحل المختلفة، ونتيجة لاعتناق أقوام متعددة لليهودية، فقد أصبحت اليهودية ديناً يضم أجناساً مختلفة. من هنا نجد أنّ علماء الأجناس يقولون: إنّ أكثر من 90% من يهود العالم لا علاقة لهم اليوم ببني إسرائيل، بل إنّ الغالبية العظمى من بني إسرائيل قد اعتنقوا الإسلام، وبالتالي لم يعد بالإمكان تمييزهم عن غيرهم من الأجناس. أمّا الادعاء الصهيوني بأنّ اليهود هم أبناء يعقوب، عليه السلام، فإنه أسطورة سُطّرت لأهداف سياسية، ولا مكان لهذا الادّعاء في الدراسات التاريخية الجادّة. صحيح أنّ اليهودية نزلت إلى بني إسرائيل، وصحيح أيضاً أنّ الغالبية من بني إسرائيل قد صوّبت مسيرتها مع الأنبياء والمرسلين. أمّا الذين بقوا على عنادهم وقاوموا دعوات الإصلاح، وركنوا إلى الأساطير، وجذبوا إليهم أمثالهم من الأمم الأخرى، فهم الذين أفاض القرآن الكريم في وصفهم، وكشف حقيقتهم، وبيّن خطورة موقفهم من دعوة الحق التي جاءت بها الرسل عليهم السّلام.