"وهل أتاكَ نبأُ الخصمِ إذ تسوّروا المِحراب. إذ دخلوا على داودَ ففزِعَ منهم، قالوا لا تَخفْ خَصمانِ بَغى بَعضُنا على بعض، فاحكم بيننا بالحقّ ولا تُشطط واهدنا إلى سواء الصراط. إنّ هذا أخي له تسعٌ وتسعونَ نعجةً ولِيَ نعجةٌ واحدةٌ فقال أكفِلنيها وعَزّني في الخِطاب. قال لقد ظلمكَ بسؤالِ نَعجتِك إلى نِعاجه، وإنّ كثيراً من الخُلطاء ليبغي بعضُهم على بعض، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليلٌ ما هم. وظنَّ داودُ أنّما فَتنّاهُ فاستغفرَ ربّه وخَرّ راكعاً وأناب. فغفرنا له ذلك، وإنّ له عندنا لزُلفى وحُسنَ مآب. يا داودُ إنا جعلناكَ خليفةً في الأرضِ فاحكم بين الناس بالحقِّ ولا تتبعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عن سبيل الله. إنّ الذين يَضِلُّون عن سبيل الله لهم عذابٌ شديدٌ بما نَسوا يومَ الحِساب" (ص: 21- 26).
تفسير هذه الآيات الكريمة يصلح مثالاً صارخاً على مجافاة بعض أهل التفسير لظاهر النص القرآني جرياً وراء الإسرائيليات التي ألقت بظلالها السلبيّة على أفهام الكثير من القدماء والمعاصرين. ونحن هنا نفترض أنّ القارئ على دراية بمسلك المفسرين عندما يفسرون هذه الآيات الكريمة. وما نهدف إليه في هذه العُجالة هو إلقاء الأضواء على جوانب هي في رأينا مفاتيح تساعد في فهم بعض دلالات كلام الله الحكيم.
"وهل أتاكَ نبأ الخَصْمِ إذ تسوّروا المحراب": واضح في النص الكريم أنّ المتخاصمين هم جماعة وليس فقط الأخوان، بدليل قوله تعالى: " إذ تسوّروا... إذ دخلوا"، وبدليل قولهم: "... خصمان بغى بعضُنا على بعض...". فهُم جماعة منقسمة إلى قسمين متخاصمين، وهذا يعني أنّ الإشكال لم يكن مقتصراً على الأخوين.
"إذ تسوّروا المحراب": هذه من العبارات المفتاحيّة، والتي تساعد على فهم حقيقة ما جرى؛ فهناك جماعة مضطرة أن تأتي البيوت من ظهورها، وهذا يدل على عدم إمكانية أن يدخلوا من الباب. أما ذكر المحراب فيشير إلى أنّ داود، عليه السّلام، كان قد اختلى بنفسه ليعبد الله تعالى، وقد جاء في الحديث الشريف أنّ داود، عليه السّلام، كان أعبدَ الناس.
"إنّ هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجة ولي نعجةٌ واحدةٌ فقال أكفلنيها وعَزّني في الخطاب": من المستبعد أن يطمع الأخ الغنيُّ بنعجة أخيه، ولا يحصل مثل ذلك إلا في حالات شاذّة ومَرَضِيّة. والأقرب إلى ظاهر النص الكريم أنْ نقول إنّ الأخ الغني قد طلب من أخيه أن يَضُم نعجته إلى باقي النعاج لترعى معها، لأنّ ذلك أصلح لها، وأرفق به أن يجعلها مع باقي الغنم. ومثل هذا الأمر متوقع أن يكون بين الأخ وأخيه، بل هذا ما تفرضه أدنى درجات الأخوّة وصلة الرحم.
"فقال أكفلنيها": هو إذن يريد أن يجعلها في كفالته، ولا يوجد في النص الكريم ما يشير إلى أنه كان يريد أن يتعدّى على حقّ أخيه فيغصبها. ومتى كانت الكفالة في اللغة تعني الأخذ والاغتصاب؟! أمّا في القرآن الكريم فلم ترد الكفالة إلا بمعنى الحفظ والرعاية والضمانة، من مثل قوله تعالى، في حق مريم، عليها السّلام: "وكفّلها زكريا...". ويبدو أنّ الأخ الغني كان حَريصاً على مصلحة أخيه فألحَّ عليه في طلب ضمّ النعجة إلى باقي النعاج لتكون في كفالته:"وعَزّني في الخطاب".
من هنا كانت البداية، وهي صورة تتكرر في المجتمعات الإسلاميّة؛ فأنت تجد دواعي الأخوّة تمنّع الكثيرين من اقتسام الميراث، بعد وفاة المُورِّث، مما يؤدي إلى تداخل الحقوق وتشابكها، بحيث يصعب فيما بعد الفصل في هذه الحقوق من غير إلحاق ظلم بطرف من الأطراف. وبمرور الوقت تدخل أطراف أخرى مثل الزوجات والأحفاد والأصهار وغيرهم، وتكون الشحناء والبغضاء وقطع الرحم، في حين أنّ الدوافع الأصلية كانت الرغبة في صلة الرحم.
"قال لقد ظلمَكَ بسؤالِ نعجتِكَ إلى نعاجه": نعم، هذا هو الأصل الذي ولّدَ الظُلم؛ فعندما طَلبَ منك أن تضُمّ نعجتك إلى نعاجه، باسم الأخوّة، كان ظالماً لك، لأنّ ذلك أدّى إلى اختلاط الأمور وتداخل الحقوق، ودخلت في الخُصومة أطراف أخرى.
يمكن تصور ما حصل على الصورة الآتية: الأخ الغني يطلب من أخيه، رحمة به، أن يَضُم نعجته إلى نعاجه الكثيرة. ومضت الأيام، وبما أنها نعجة أنثى فمن المتوقع أن تكون قد توالدت وتكاثرت، ولا يبعد أن يكون هناك رعاة يرعون الغنم على قِسم، كما هو عادة الكثير من القدماء. وبما أنه لم يتم ابتداءً الاتفاق على تفاصيل الأمر، أهو مشاركة أم هو مجرد كفالة تطوعيّة، فقد نشأ نزاع بين عدة أطراف. وهذا التصور يساعدنا في فهم كونهم جماعة متنازعة:".. بغى بعضُنا على بعض"، "... وإنّ كثيراً من الخُلطاء ليبغي بعضُهم على بعض...".
"يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق...": من كان في مثل هذا الموقع يكون مسئولاً عن الفصل بين الناس، ومن قَبل ذلك يكون مسئولاً عن هدايتهم إلى سواء الصراط، وهذا يقتضي أن يُنفق معظم وقته في إرشاد الناس وتعليمهم ووعظهم، والفصل بينهم فيما أشكل عندهم. ومعلوم أنّ إنفاق الوقت في تعليم النّاس وقضاء حوائجهم والقيام على مصالحهم مُقدّم على التفرّغ لعبادة الصلاة. أمّا أن يُكثر داود، عليه السلام، من التعبد في محرابه، حتى يضطرهم إلى أن يتسوّروا المحراب ليصلوا إليه، فأمر يحتاج إلى تذكير وتنبيه. وقد كانت هذه الحادثة هي المُنبّه لداود، عليه السلام، فسارع إلى الإنابة والاستغفار.
"وظنّ داودُ أنّما فتنّاه": نعم، هذه الحادثة جعلت داود، عليه السّلام، يتنبّه إلى بعض وجوه التقصير التي يمكن أن يكون قد دفعه إليها حبّه للتفرّغ للعبادة، فأدرك، عليه السّلام، أنه قد امتحن من أجل تنبيهه إلى الأولويّات التي يجب أن يتنبّه إليها.
"وظنّ داودُ أنّما فتنّاهُ فاستغفرَ رَبّه وخَرَّ راكعاً وأناب، فغفرنا له ذلك..." إنّ مقام النبوّة يقتضي حساسيّة شديدة تجاه أي تقصير، أو حتى أدنى غفلة عن الأولويّات، وإن حصلت مثل هذه الغفلة فلا تلبث أن تزول، ولا يلبث النبي أن يُنيب إلى الله تعالى. ولا يجوز هنا أن يذهب بنا الخيالُ مذاهب فنتصوّر أنّ النبي يستغفرُ من كبيرة، بل إنّ الاستغفار هو ديدن الأنبياء، فهذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يستغفر الله تعالى في اليوم مائة مرّة. وصدق من قال:"حسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقرّبين"، فشتّان بين دواعي استغفارنا ودواعي استغفارهم، عليهم السّلام.